أضع بين أيديكم هذا الموضوع حول الفكر الاجتماعي عند المسلمين- ابن طفيل
لا تسونا بالدعاء في سجودكم
تاريخ الفكر الاجتماعي عند المسلمين .
لمحة عن المجتمع في الجاهلية .
* التنظيم الاجتماعي : تعتبر القبيلة الوحدة الاجتماعية التي يقوم عليها النظام البدوي وتتألف القبيلة من ثلاث طبقات رئيسية هي :
o طبقة الأحرار: وهم العرب المنحدرين من اصل واحد ومشترك هو الجد الأعلى للقبيلة.
o طبقة الحلفاء : وهم عرب تربطهم بالقبيلة المصالح المتبادلة بين الطرفين وذلك بغية المحافظة على كيان القبيلة الضعيفة .
o طبقة العبيد: وهم نتيجة شراء أو اسر، ويعمل أفراد هذه الطبقة في الأعمال اليدوية ورعي الماشية ولا يشتركون في الحرب .
· مكانـة المرآة : كان المجتمع ينظر للمرآة على أنها عالة نظرا لدورها الثانوي في مختلف النشاطات لذلك ذهب بعظهم إلى واد بناته ، على أن هذا الوأد كان لعوامل اقتصادية و اجتماعية ودينية . فمن الصفات الاجتماعية ، أن الزواج كان يتم باكرا محافظة على شرف العائلة وكيان الأسرة كما انه كان يتم داخل العشيرة الواحدة محافظة على وحدتها ، وقلما يتم الزواج خارج القبيلة .
المجتمع الإسلامي في عهد الرسولr .
(( إن المجتمع الإسلامي هو من النموذج ذي الحجر الواحد ، اعني إن بناءه قد اتخذ صورة واحدة تتفق كثيرا أو قليلا مع الحديث المشهور " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا " وهو الحديث الذي يعطي الصورة الدقيقة التي كان عليها المجتمع الإسلامي في عهد النبي r حيث كان مجتمعا بلا طبقات ))(1) وأول بوادر الوحدة الاجتماعية تتمثل في المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار بالمدينة المنورة التي قامت بها أول دولة إسلامية فجعل كل مهاجر يعيش في بيت احد الأنصار ، واستمر هذا التنظيم على هدا النمط ، حتى موقعة بدر الكبرى ، حيث أبطل نظام المؤاخاة لانتهاء الحاجة إليه . ولقد اقتضى التنظيم الجديد ، وجود دستور يحدد موقف المسلمين اتجاه أنفسهم من ناحية ، واتجاه اليهود من ناحية أخرى ، وتجاه الحكومة ثالثا وعلاقة المدينة بالخارج ، لهذا وضع الرسول r دستورا كتب على صحيفة ومما جاء فيه :
· الإسلام هو الرابطة الوحيدة التي يبني عليها الإخاء والمحبة .
· المسلمين امة واحدة عليها السهر على الأمن ومقاومة كل معتدي ولو كان احد أبنائهم .
· الرسول r هو المرجع الأعلى للخلافات التي تقع بين المسلمين أو النزاع الذي ينشب بينهم وبين اليهود في المدينة .
· منزلة المرآة : لما جاء الإسلام قضى على عادة الوأد وأوصى الرجال عامة خيرا بالنساء كافة .
· الأسرة والبيت : لعل من ابرز سمات المجتمع في المدينة - على عهد الرسول r - هو الحرص الكبير على أن يكون للرجل زوجة وأولاد ، ولذلك فقد سهلت مراسم الزواج وخفف عن الخاطب حمل الصداق ، بشكل كبير جدا . ومن مظاهر العرس في المدينة إقامة الوليمة وكانت لازمة من غير إسراف .
ولقد كانت حياة الأسرة في البيت ، كانت بسيطة التكاليف خالية من البذخ و البهرج ، وكانوا يجلسون على الحصر و البسط و الفراش المحشوة بالصوف .
وقد شاعت بعض العادات وانتشرت بين أسر الصحابة على عهد الرسول r منها:
· التحنيك : كان الرسول r يمضغ تمرة ثم يضعها في فم المولود ويدعو له ويسميه .
· العقيقة : وهي ذبح شاة عن الذكور والإناث وهي مستحبة .
· الختان : وهي من السنن التي فطر عليها الإنسان .
· التعليـم : اهتم الإسلام أول ما هتم به ، العلم و الحث عليه ، منذ أوائل نزول القران الكريم ،وقد حرص الرسول r ، حين منشئ الإسلام في أهل المدينة ، بعد بيعة العقبة على إرسال مصعب بن عميرtإليهم وأمره أن يقرئهم القران ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين . وقد اقتضى الأمر رغبة في نشر العلم
و القراءة بين الصحابة في المدينة ، أن أمر الرسول r بتسليم كل مهاجر جديد لأحد الصاحبة ، يعلمه ، وكان الرسول r المعلم الأول للصحابة يتكئ في المسجد بين ظهراني أصحابه في حلقة ، يجيب على أسئلتهم و يعلمهم أمر دينهم ، وكان يقول الرسول r(( من سئل عن علم وكتمه ، ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة )) .
· الزراعة :لقد ساعد تطويق الجبال و الحرارة البركانية لموقع المدينة المنورة على جعل تربتها شديدة الخصوبة ، كما عمل ذلك التكوين الذي يشبه الحوض الجبلي ، على حجز المياه الجوفية العذبة ، مما جعل في الاستطاعة الوصول إليها ، في أي بقعة من ذلك الحوض عند حفر الآبار وقد تظافرة تلك العوامل بالإظافة إلى وجود عدد كبير من الأودية التي تسيل على سطحها ، في وقت الأمطار و السيول من تلك الجبال ، على جعل المدينة – في المقام الأول – مدينة الزراعة و المزارعين ، إذ أن معظم أهل المدينة كانوا يملكون البساتين وحدائق النخيل وكانوا يعملون فيها بأنفسهم ، ومما ساعد على انتعاش الزراعة وتقدمها – بشكل واسع – في المدينة وجود عدد كبير من المهاجرين عملوا في الزراعة واستغلوا الأراضي الزراعية الواسعة واستصلحوا ما كان حول الأودية ومن أهم المنتجات الزراعية : التمر، القمح و الشعير ، العنب .
أما بالنسبة للمهن والحرف العامة فنذكر بعض منها : مهنة الرعي ، حرس المدينة ، الكتابة ، خازن النقديين : صاحب بيت المال ، الخارص : وهو الذي يحرز ما على النخل من تمر، الحجام .
أما الحرف فهي : طرق وإذابة المعادن لسبك الحلي ، وصنع الأسلحة ، الصياغة ، النسيج ، التجارة ، الدباغة ، البناء .
ــــــــــــــــ
(1) أ.مالك بن نبي مشكلات الحضارة ، ميلاد مجتمع ،ج1 شبكة العلاقات الاجتماعية،ت أ.عبد الصبور شاهين ط3 دار الفكر دمشق 2002م ص12 .
المجتمع الإسلامي في عهد الدولة الأموية
آلت حالت المجتمع إلى الطبقية في أيام الأمويين ودلك بسبب الحرية الواسعة التي انتهجوها في مجال الاقتصاد وكانت عائلة الخليفة وكبار التجار وقواد الجيش تتشكل منهم الطبقة الاجتماعية الأولى بين أفراد المجتمع ، أما الطبقة الوسطى فكانت تضم صغار التجار ومتوسطيهم و الفلاحين و العمال وأصحاب الحرف وكان في أدنى الترتيب الاجتماعي الرقيق الذين تكاثر عددهم من جراء اتساع الفتوحات ، ومن
العجزة عن العمل و الفقراء المعدمين بين أفراد القبائل وسواد البطالين في المدن في ذلك العهد . أما المرآة فقد احتفظت بمكانتها المحترمة .
أم بالنسبة للتنظيم الحكومي فقد أصبح منصب الخلافة في أيام الأمويين وراثيا ، وقد ضاعف ووسع الأمويين من عدد الدواوين ( الوزارات ) التي عرفها العرب منذ أيام الخليفة عمر بن الخطاب tومن أهم الدواوين : ديوان الجند ( وزارة الدفاع) ، ديوان الخراج ( وزارة الاقتصاد ) ، دواني الخاتم و الرسائل ( وزارة الداخلية ) ، ديوان الشرطة ( لحفظ الأمن ) ، ديوان البريد ( لإيصال الأخبار في اقرب وقت للخليفة ) .
ولقد اهتم بني أمية بالعمارة حيث انشاوا المدن مثل مدينة الرملة وانشاوا قصر الخضراء في دمشق وزينوها وأمدوها بالماء وأسسوا المسجد الأموي بدمشق .
أما الثقافة نشأة في هذا العهد الدراسات الغوية بالكوفة و البصرة خاصة ، كما شجع الأمويين الشعراء خاصة ، وازدهر في هذا العهد دراسة العلوم الإسلامية من فقه وحديث وتفسير ، كما بدأت بعض العلوم الجديدة كالطب ، وشرع في الترجمة ، وإستعاب مآثر الأمم الأخرى من الكيمياء و التنجيم و الجبر .
ولقد اهتم بنوا أمية بتنمية موارد الثروة الاقتصادية من زراعة وتجارة وصناعة :
· الزراعة : أصلحوا الجسور وأقاموا السدود والترع في شام ومصر.
· التجارة : نشطت بين الولايات الإسلامية وتبادلت بين الأقطار المنتجات ، هذا بخلاف التجارة مع الهند و الصين وأوربا .
المجتمع الإسلامي في عهد الدولة العباسية
بلغ المجتمع الإسلامي في العصر العباسي درجة عظيمة من الرقي نظرا لتقدم الحضارة وازدهارها في العالم الإسلامي ، وتتضح لنا معالم رقي المجتمع فيما يلي :
· الإدارة : إن النظام الإداري استمر على ما كان عليه في عهد الأمويين مع بعض التطورات و إليكم مختصر هذا التنظيم :
· الخلافة : كانت انتخابية في عهد الخلفاء الراشدين ، أم في عهد الأمويين فقد أصبحت وراثية ، وهذا ما كان في عهد العباسيين أيضا .
· الوزراء : ظهر منصب الوزارة في العهد العباسي ، و الوزير هو رئيس الحكومة يساعد الخليفة في الإدارة .
· الدواوين : وهي تمثل حاليا الوزارات ومنها : ديوان الجند ، و الخراج و الرسائل والبريد و النفقات وغيرها من الدواوين الثانوية.
· العائلـة : كانت العائلة المسلمة متينة الروابط : الصغير يحترم الكبير، و الكبير يعطف على الصغير ، ومثل هذا القول ينطبق على الجيران وثم سكان الحي في المدينة أو القرية ، وبذلك عاش المجتمع الإسلامي بعيدا عن العنصرية و الطبقية والانحلال .
· الحياة الثقافية والعقلية : لقد ازدهرت العلوم في العهد العباسي خاصة في عهد الرشيد وابنه المأمون ، وذلك بتأسيس دار الحكمة التي كانت وبحق أعظم مؤسسة ثقافية في عهدها ، ومن ثم خطت العلوم خطوات عملاقة ولذا اعتبرت هذه الفترة ،فترة ازدهار العلوم .
ففي الدين مثلا ظهرت المدارس الدينية المختلفة وهي : " المالكية " و "الحنفية " و "الشافعية " و " الحنبلية " .
أما في الأدب فظهرت مدرستين وهي مدرسة البصرة و التي يترأسها "سيبويه " ومدرسة الكوفة ويترأسها أبو "جعفر الرواسي " وتلميذاه " ألكسائي " و " الفراء " .
أما في الشعر فنذكر عدة مدارس من بينها : الفلفسة ويمثلها " المعري " و التصوف والسياسة والزهد ويمثلها " أبو العتاهية " كما نما فن القصة كما هو الحال في قصة ألف ليلة وليلة .
أما العلوم فقد تطورت : الرياضيات خاصة الحساب و الجبر و الهندسة وتطور الفلك فانشاوا المراصد الفلكية و التقاويم الصحيحة وتوصلوا إلى دراسة الكسوف و الخسوف كما تطورت الكيمياء حيث وضعوا لها قواعد وأصول .
أما في الطب فيقال إن " المنصور" هو أول من شجع الطب ، الذي تطور في عهد الرشيد و المأمون وبعديهما .
· الحياة الاقتصادية : أدى اهتمام العباسين إلى انتعاش كبير في المجال الاقتصاد وينضح ذلك جليا فيما يأتي :
· الزراعة : شجعت على إحياء الأراضي البور وتحسين المنتجات ،وذلك بتوفير المياه اللازمة فأقيمت السدود وحفرة الجداول وتوفير الأسمدة وتشجيع البحوث المتعلقة بدارسة التربة وأنواع النباتات و الشروط اللازمة لنموها .
· الصناعة : لقد اشتهرت بصناعة المنسوجات على اختلافها و النجارة الخشبية وزخرفتها و الزجاج وزخرفته و الورق و التطريز وبناء السفن التجارية و الحربية ... الخ .
· التجارة : كانت الأساطيل تجوب البحر المتوسط من جبل طارق وطنجة إلى إنطاكية ( الشام ) و البحر الأحمر و المحيط الهندي إلى المحيط الهادي إلى كوريا حاليا .
لمجتمع الإسلامي في عهد الموحدون
تعد دولة الموحدين اكبر دولة إسلامية ، وحدت المغرب العربي تحت سلطة واحدة مستقلة كل الاستقلال عن المشرق العربي .
وقد دام حكمها قرنا ونصف القرن ، وقد شملت سلطة الموحدين المغرب العربي ( مراكش ، الجزائر ، تونس ، مع ولاية طرابلس ) إلى حدود الفاطميين ، كما شملت كذلك القسم الجنوبي من شبه جزيرة ابريا .
· سياسة الموحدين : مرت سياسة الموحدين بثلاث مراحل كبرى أعقبتها مرحلة الضعف والانحلال التي أدت إلى سقوط دولتهم .
· المرحلة الأولى : كانت سياستهم تتلخص في إصلاح المجتمع ، بواسطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ونشر التوحيد بين الناس .
· المرحلة الثانية : فقد اعتمدت سياستهم على السلاح و الدهاء السياسي مع حفظ التنظيم الإداري .
· المرحلة الثالثة : وبعد أن دعمت أركان الدولة عمل خلفاء عبد المؤمن على توطيد الأمن في البلاد و القضاء على العناصر المشاغبة و المشكوك فيها ، ومن جملة من تعرض لسياسة التطهير هذه أهل الذمة من المسيحيين و اليهود ، وقد كان هؤلاء يعاملون معاملة حسنة ، لكنهم تطلعوا إلى بلوغ السلطة و القضاء على الإسلام بالمغرب ، فقاموا بنشاط ملحوظ ، مما جعل من السلطة تطلب منهم دخول الإسلام أو مغادرة البلاد كرها ، فغادر البعض و تظاهر البعض الآخر بالإسلام،أما مع رؤساء القبائل فان سياسة الموحدين كانت تختلف باختلاف قوتهم و ضعفهم ، فأحيانا يميلون إلى المسالمة وكسب ودهم ، وأحيانا يميلون إلى البطش بهم ، فقامت عدت ثورات انفصالية مثل ثورة بني عامر وبني زيان وبني حفص وبني غانية .
· الإدارة : كان رئيس دولة الموحدين يلقب بأمير المؤمنين وأول من تلقب بذلك كان عبد المؤمن مؤسس الدولة . وكان الرئيس يشرف على مختلف شؤون البلاد وقد استعان في ذلك بمجلس الشيوخ و الوزراء ، وقاض القضاة ( وزير العدل ) وعدد من الكتاب .
· الحالة الاقتصادية : اهتم الموحدون بالزراعة وتربية المواشي اهتماما بالغا باعتبارها ثروة البلاد الرئيسية ، كما اهتموا كذلك بالصناعة وتنوعها الأمر الذي أدى إلى ازدهار التجارة الداخلية و الخارجية فقد عقد الموحدون اتفاقيات تجارية مع أوربا .
· الثقافة و العمران : امتاز عصر الموحدين بتشجيع العلوم على اختلافها ، إلا ما يتنافى منها مع الدين الإسلامي ، الأمر الذي ساعد على قيام نهضة علمية وصناعية كبرى . وكانت المؤسسات العلمية في عهدهم على أربع أنواع وهي :
· الكتاتيب : تهتم بتخفيض القران للصبيان مع بعض المبادئ في الفقه .
· الزوايا : وتهتم بالعلوم الدينية على الأكثر مثل : الفقه و التوحيد وبعض الإلمام بالتاريخ الإسلامي ... الخ .
· المدارس العامة والخاصة : وهي بمثابة المدارس الثانوية في عصرنا.
· الجامعات و المعاهد العليا : وفيها يتخصص الطالب بمختلف الفروع كالطب والهندسة والفلسفة و العلوم الطبيعية ... الخ .
ولقد سقطت دولة الموحدين في 1269م وكان لكثرة الثورات ، وضعف الخلفاء ، وظهور الحركات الانفصالية ، اثر في سقوط دولة الموحدين . وفي هذا الصدد يقول مالك بن نبي (( أما إذا تفككت الشبكة نهائيا ( يقصد شبكة العلاقات الاجتماعية ) ، فذلك إيذان بهلاك المجتمع ، وحينئذ لا يبقى منه غير ذكرى مدفونة في كتب التاريخ . وقد تحين هذه النهاية و المجتمع متخم بالأشخاص و الأفكار و الأشياء كما كانت حال المجتمع الإسلامي في الشرق في نهاية العصر العباسي ، وفي الغرب في نهاية عصر الموحدين . وربما هذه الحالة من التحلل و التمزق في المجتمع الإسلامي حين أصبح عاجز عن أي نشاط مشترك))(1)
ــــــــــــــــــ
(1)أ . مالك بن نبي،مشكلات الحضارة،ميلاد مجتمع،ج1 شبكة العلاقات الاجتماعية،ت أ.عبد الصبور شاهين،
ط3 ؛دمشق : دار الفكر ، 1986 م إعادة 2002 م .
الفكر الاجتماعي عند ابن طفيل .
مولد ونشأة ابن طفيل
ولد " أبو بكر محمد ابن طفيل القيسي " ، في واد " آش " حاليا " GUDIX"، تبعد عن قرطبة بحوالي 55 كلم ، في عام لم يحدده المؤرخون بدقة ، فذكروه مابين 490 وعام 505 هجرية في أسرة لم يذكر المؤرخون عنها شيئا ، ينتمي إلى قبيلة " قيس " من اصل عربي من غير اليمن .
أما عن نشأته ودراسته فلم تتعدد الاستنتاجات ، فهي لا تزيد على انه قراء على جماعة من المحققين لعلم الفلسفة منهم " أبا بكر بن الصايغ " المعروف " بابن باجه " وسواء قد تتلمذ ابن طفيل حقا على " ابن باجه " أو لم يصح ذلك ، فمما لاشك فيه انه تأثر به وبفلسفته تأثيرا بارزا ، هذا إلى جانب دراسته ، العلوم الدينية و الفقه و العلوم العقلية و الطب و قد برز فيها جميعها وترك أثارا فيها . ولعل العلوم هذه تلقاها " بغرناطة " و " اشبيلية " كونهما مركزا العلوم في بيئة وعصر ابن طفيل .
أما عن ميدان العمل يقدم لنا الباحثون ابن طفيل قاضيا كما قدموه لنا طبيبا بارعا "بغرناطة" لحقبة طويلة لدى السلطان " أبي يعقوب يوسف بن القيسي " إلى أن تخلى عن هذه المهمة "لإبن رشد" . كما يقدمه لنا البعض كاتبا لأمير " غرناطة " ولأحد أبناء " عبد المؤمن " . ووزيرا للسلطان " أبي يعقوب يوسف " نفسه ، وقد كان له علاقة وطيدة بسلطان "أبي يعقوب يوسف" .الذي كان شغوفا بالعلم واحترام العلماء.
وقد استمر على ملازمة ولده " أبي يوسف يعقوب " إلى أن توفاه الله عام 581 هـ/1183 م في مدينة مراكش ودفن فيها .
هذا ما وصلنا إليه من حياة و نشأة وتكوين ابن طفيل الفكري . أما كونه كفيلسوف فانه قد أودع في قصة " حي بن يقظان " خلاصة أفكاره ، إلى جانب الشائع و المتداول في عصره من العلوم و الأفكار والفلسفة .
ابن طفيل وقصة حي بن يقظان.
بصرف النظر عن الأصل القصصي لرسالة " حي بن يقظان " الذي يرجعه احدهم إلى اصل يوناني أسطوري(1) فإن ابن طفيل قد أضفى على هذه القصة من شخصيته ، شكلا ومضمونا ، وأسلوبا ، وغرضا ، مما جعلها تلتصق " بابن طفيل " التصاق الفكر بصاحبه ، والأسلوب بواضعه .
ولقد قصد ابن طفيل من خلال تسميته للقصة " حي بن يقضان " حيث حي : يرمز إلى العقل و والده يقظان أي دائم الإشراق و السهر .
ولقد اشتهر ابن طفيل في الفكر الإسلامي و الفكر العالمي من خلال قصة " حي بن يقظان " و التي ترجمة إلى العديد من اللغات من بينها :
· ترجمة " بيكوك " إلى اللاتينية 1671 م .
· ترجمة " آشيول " إلى الانجلزية .
· ترجمة إلى الهولندية عن ترجمة " بيكوك " 1672 م .
· ترجمة إلى الألمانية ، وترجمها " جورج بر بتيوس " 1762 م .
· ترجمة " غوتيه " إلى الفرنسية 1900 م .
· ترجمة "بونس بواغسن " إلى الإسبانية 1900 م .
· ترجمة " موسى الزبوني " إلى العبرية 1349 م .
· ترجمة إلى الفارسية وغيرها من اللغات الكثيرة .
ولهذه القصة أمثالها في حياتنا الواقعية ففي سنة 1953 عثروا في سوريا على طفل يعيش بين الغزلان ، كما عثروا في مقاطعة البنغال في الهند سنة 1920 على أسرة ذئاب ومعهم بنت لا تتجاوز السنة و النصف و معها أخت أخرى .
البعد الاجتماعي لقصة حي بن يقضان .
إذا تركنا قصة " حي بن يقظان " أصلا و مظمونا لنعود إليها من ناحية الغرض الذي وضعها لأجله فبالإضافة لما ضمنها من علوم عصره ( الفلك ، الطب ، الطبيعيات ...الخ ) تجدها قصة فلسفية رمزية تهدف إلى تحديد فلسفة للمعرفة و سلوك نهج معين للوصول إلى الحقيقة حيث تعددت إليها السبل و اختلفت المناهج بالرغم من كونها واحدة برز بها ابن طفيل
صاحب فلسفة محددة وواضحة إلى جانب كونه صاحب نهج فكري جلي ومنسجم ، فجاء(حي) رمزا للعقل الذي هو أداة صالحة لإدراك تلك الحقيقة التي اختلفت السبل المؤدية إليها .
فلقد عالج ابن طفيل في تلك القصة المشكلة القائمة في عصره ، مشكلة أهل النقل و أهل العقل ( الوحي ) و النظر بين أهل الدين وأهل الفلسفة ، ماهيتهما ووظيفتهما ومابينهما من علاقة .
ظهر ابن طفيل في تلك القصة بأنه على الأقل قد اطلع على فلسفة من سبقه إن لم نقل قد تأثر بهم(2) ، فانه يجيب على السؤال الأنف الذكر ، ويعالج المشكلة المطروحة اناذاك و التي ذهب ضحيتها الكثير من العلماء و الفلاسفة والمفكرين فانجروا في مزالقها وانقادوا في متاهاتها(3) ومخاطرها و الذي نعنيه هنا إتباع طريق العقل الذي اعتبره أهل النقل احد هفوات الفلاسفة .
ويمكن أن نوجز ما يريد ابن طفيل تقريره من خلال قصة " حي بن يقضان " قيما يلي :
· توافق العقل مع النقل ، والفلسفة مع الشيء و النظر مع الوحي .
· إن الحقيقة الخالصة لا يمكن للعوام إدراكها فلابد لها من الشرع ( الأنبياء ) لأنهم مكبلون بالحواس ومنشغلون بأمر الظاهر من الدنيا .
· للتأثير في العوام لابد من اللجوء إلى الرموز و الاستعانة بما يقرب الحقائق إلى فهمهم وعقولهم .
لقد كانت فلسفة ابن طفيل عند البعض عقلية و عند البعض الأخر صوفية وعند الآخرين طبيعية بالرغم من نهلهم من معين واحد وهو قصة " حي بن يقضان " .
إذا رجعنا إلى قصة " حي بن يقضان " وخاصة في مرحلتها الخامسة التي كانت مابين الثامن و العشرين وحتى الخمسين من العمر . في هذه المرحلة من النمو والابتكار بلغ ابن طفيل مع " حي بن يقضان " مرحلة المشاهدة القصوى و السعادة الأبدية ، كما بلغ به درجة من الرياضة النفسية و الفكرية ، تتسنى له المشاهدة و الوصول كلما شاء واشتاق إليه .
(1) يعيد إميل غرسه اصل هذه القصة إلى بعض الأساطير اليونانية التي تدور حول الاكسندر .
(2) يزعم البعض أن " ابن طفيل " قد تأثر " بابن باجه " ويذهب آخرون إلى انه تأثر " بالفارابي " وكما يعتقد
البعض انه اخذ عن " ابن سينا " وهناك من يذكر انه تأثر " بالغزالي " .
(3) مع الإشارة أن " ابن باجه " قد اتهم بالزندقة وأحرقت كتبه .
هذا الصوفي الزاهد " حي بن يقضان " الذي تذوق متعة الوصول و المشاهدة الذي لم يسبق له أن تعرف على المجتمع البشري بشكل أو بآخر ، كما لم يسبق له أن اختبره و جربه ليطلق حكمه عليه ويبدي رأيه فيه .
كان له من " آسال " و " سلامان " اللذين قد اهتدى اليهما ومن خلالهما أن تعرف على المجتمع و أبدى رأيه فيه وحكمه عليه .
· آسال : ذلك الإنسان الذي يميل إلى التأمل و الغوص على الباطن و على المعاني وتأويلها ، ذلك الإنسان الذي توفر عنده الاستعداد لتقبل ما وصل إليه " حي " بنفسه .
· سلامان : الذي كان أكثر احتفاظا بالظاهرة ، واشد بعدا عن التأويل و الذي ليس عنده استعداد وفطرة كما هو عند زميله " آسال " .
ويلخص ابن طفيل موقف هاذين النموذجين في المجتمع إزاء دعوة الشريعة ، إما انتهاج طريقة ( العزلة والانفراد ) باعتباريهما طريقة الخلاص و النجاة أو انتهاج طريقة ( المعاشرة وملازمة الجماعة ) وكل منهما يمثل إحدى الاتجاهين ومن الطبيعي أن يمثل " آسال " النموذج الأول ( العزلة والانفراد ) أما النهج الثاني يتمثل في " سلامان " الذي ارتضاه طريق للخلاص إذ كان لكل منهما طباعه ( استعدادات و ميول ).
ومن البديهي أن يختار ابن طفيل " لحي بن يقضان " النهج الأول و المتمثل في " آسال " يرافقه و يتفقان فيما بينهما فكرا و عملا ومنهاجا حياتيا ، فتكون العزلة و الانفراد هما طريق الخلاص التي اختارها ابن طفيل لتلميذه ( حي ) بعد أن وجد في المجتمع و التعايش ما يظل و يهلك و بالرغم من المحاولة التي يقوم بها ( حي ) في هداية المجتمع فيختار له "حي " من هم اقرب الناس إلى ذكاء من جميع الناس ... لكنه عجز عن تعليمهم فهو عن تعليم الجمهور اعجز ، وبالفعل يعترف ( حي ) بعجزه و يعتزلهم قبل أن يعتزلوه لأنه ( كما ترقى بهم انقبضوا عنه و تشمئز نفوسهم منه ... لنقص في فطرتهم ، لا يأخذون من الحق من طريقه ولا تأخذون بهجة تحقيقه ولا يلتمسونه من بابه ... فيئس من إصلاحهم وانقطع رجاؤه من قبولهم ) .
ولهذه الأسباب نجد ابن طفيل يذهب بتلميذه و صديقه الجديد " آسال " بعيدا عن المجتمع يأسا من إصلاحه و خوفا عن نفسيهما ، ويعزوا ابن طفيل ذلك إلى سببين جوهريين في المجتمع :
· فكري : حيث يلتصق ذلك الفكر بالمادة ولا يحاول التحرر من المحسوسات إلى جانب ميله دائما للأخذ بالظاهر دون الباطن كي لا يجهد ذلك الفكر نفسه في
التأويل و الغوص على الباطن مما نتج عنه صعوبة العودة به إلى طبيعته وفطرته التي فطر عليها .
· المعيشي ( الحياتي ) : حيث التوسع في المأكل و المشرب و الملبس و المسكن وفي اقتناء الأموال مما ترتب عليه ( الانشغال بالباطل و الإعراض عن الحق ) مما صعب على البشر التخلي عن ماهم فيه من حياة مادية مترفة توصلوا إليها نتيجة الرقي في الانغماس في ملاذ الحياة و إتباع الشهوات.
هكذا نظر ابن طفيل إلى المجتمع من خلال تلميذه ( حي ) . والذي رآها البعض عبارة عن دعوة للعودة إلى الطبيعة واعتزال المجتمع ، حيث اعتبروا أن عملية إقصاء ( حي ) من المجتمع هي عملية مقصودة حاول من خلالها ابن طفيل أن يؤكد لنا كيف يتفتح عقل الإنسان بمعزل عن كل تأثير اجتماعي .
وهذا فهم خطئ حيث أن ( عقل حي ) إنما يمثل عقل النوع البشري جملة ، و ابن طفيل
لم يكن ليجهل أن هذا العقل مدين للمجتمع في كل تطوراته ، فالاجتماع عند ابن طفيل كان (اصل تطور البشر وتقدمه ) ومن هنا تفتح ( عقل حي ) وتطور احتكاكه بالآخرين ، كما نضجت تصوراته عن طريق العمل من اجل إشباع حاجاته ولمواجهة ما حوله من أخطار ولما كانت ( الحاجة أم الاختراع ) تطور الجنس البشري وتقدم العلم وازدادت دائرة المعارف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــ
قائمة المراجع المعتمدة :
· أ . مالك بن نبي ، مشكلات الحضارة ، ميلاد مجتمع ج1 شبكة العلاقات الاجتماعية، ت.عبد الصبور شاهين ،( ط3 ؛ دمشق : دار الفكر ، 1986م إعادة 2002 م.) .
· د. عبد الأمير شمس الدين ، الفكر التربوي عند ابن طفيل ، (ط1؛ بيروت : دار اقرأ ، 1404هـ - 1984م .) .
· د . قباري اسماعيل ، اصول علم الاجتماع ومصادره ، (الاسكندرية : المكتب العربي الحديث .) .